أسماء وعائشة ودور المرأة المسلمة
وإذا كان في دور عبد الله وعامر بن فهيرة ما يثبت أثر الشباب في نجاح الدعوات، وأثر تضحياتهم وفدائهم في النصر والغلبة. ففي موقف عائشة وأسماء رضي الله عنهما في الهجرة أيضا ما يثبت حاجة الدعوات الإصلاحية إلى النساء، ومدى ما يمكن أن يقدمنه من خدمات جليلة فهن أرق عاطفة، وأكثر اندفاعا، وأسمح نفسا، وأطيب قلبا، والمرأة إذا آمنت بشيء لم تبال بنشره والدعوة إليه بكل إمكانياتها، وحين ننظر إلى موقف أسماء بنت أبي بكر، ابنة السابعة والعشرين،ـ وكانت حاملا في نهايات أشهر حملها ـ وكانت تمشي من مكة إلى الغار كل يوم مرات، ثم تصعد الجبل إلى الغار وهي تحمل الطعام لنبيها وأبيها، فأي عزيمة تلك وأي همة.
ولم يكن موقفها هذا أعجب من موقفها من أبي جهل وأصحابه حينما أتوا إلى بيت أبي بكر بعد خروج أبيها مع رسول الله، يسألون عنهما تقول أسماء: «لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم انصرفوا...».
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم!
وأرقى من هذين الموقفين وأعظم وأجل ـ وأسماء كلها مآثر ومفاخرـ موقفها مع جدها أبي قحافة والذي ترويه بنفسها فتقول: خرج أبو بكر بماله كله خمسة آلاف درهم.. (فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قالت: فقلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرًا كثيرًا. قالت: فأخذت أحجارًا فوضعتها في كوة في البيت، كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه. فقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. قالت أسماء: "ولا والله ما ترك لنا شيئا، ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك".
قال الشيخ الصلابي: "وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقًّا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لا حد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره.
وأما عائشة رضي الله عنها فيكفيها من الهجرة أنها عاشت أحداثها ثم حفظت للأمة تلك الأحداث حين روت حديث الهجرة وهي الصغيرة التي لم تبلغ العاشرة من عمرها بعد..
لقد ضربت عائشة وأسماء رضي الله عنهما بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا، هُن في أمس الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وتاريخ الإسلام، بما فيه الهجرة وما قبلها وما بعدها، يدل على أن لجهاد المرأة في سبيل الإسلام صفحات بيضاء مشرقة، تؤكد لنا اليوم أن خطا النهوض الإسلامي ستظل وئيدة، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة، فتنشئ جيلا من الفتيات على الإيمان والخلق والعفة والطهارة، فهؤلاء أقدر على نشر القيم التي يحتاج إليها مجتمعنا اليوم في أوساط النساء من الرجال، عدا أنهن سيكن زوجات وأمهات، ومعلوم أن الفضل الأكبر في تربية كبار الصحابة ثم التابعين من بعدهم يعود إلى نساء الإسلام اللاتي أنشأن هذه الأجيال على أخلاق الإسلام وآدابه، وحب الإسلام ورسوله، فكانت أكرم الأجيال التي عرفها التاريخ في علو الهمة، واستقامة السيرة، وصلاح الدين والدنيا.
إن علينا اليوم أن ندرك هذه الحقيقة، وهي أنه كلما كثر عدد الفتيات العالمات بالدين، الفقيهات في الشريعة، الملمات بتاريخ الإسلام، المحبات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلقات بأخلاقه وأخلاق أمهات المؤمنين، استطعنا أن ندفع عجلة الدعوة إلى الأمام دفعا قويا، وأن نقرب اليوم الذي يخضع فيه مجتمعنا الإسلامي لأحكام الإسلام وشريعته، وإن ذلك لواقع إن شاء الله.
وختاما أقول ما قاله صاحب فقه السيرة معلقا على دور الشباب في الهجرة يقول: "إننا نلمح في ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكوراً وإناثاً في سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادئ الإسلام وإقامة المجتمع المسلم، فلا يكفى أن يكون الإنسان منطوياً على نفسه مقتصراً على عباداته، بل عليه أن يستنفد طاقاته وأوجه نشاطه كلها سعياً في سبيل الإسلام، وتلك هي مزية الشباب في حياة الإسلام و المسلمين في كل زمن وعصر".
وإننا ننتظر اليوم الذي نرى فيه شبابنا كعلي وعبد الله وعامر رضي الله عنهم، ونرى فتياتنا كأسماء وعائشة رضي الله عنهما.. ونسأل الله أن يكون ذلك قريبا .. والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.